السبت، 2 سبتمبر 2017

ملخص بحث بعنوان:الاغتراب والحنين في شعر مالك بن الريب التميمي:دراسة نصية


                                    إعداد
أ.د./ ناهد أحمد الشعراوي
أستاذ الأدب العربي- بكلية الآداب ،ورئيس القسم الأسبق
 بجامعة الإسكندرية
- البحث منشور في مجلة الدراسات الشرقية، العدد 42 يناير 2000م.


تتناول هذه الدراسة شاعراً أموياً، أتى وصفه في بعض المصادر الأدبية، أن كان فاتكاً لصاً، وكان يقطع الطريق مع أصحاب له، وأنه سُجن بمكة في سرقة، وأنه كان عدّاءً.
- وإن ديوان هذا الشاعر، ليضم نصوصاً تفيد تحول الشاعر، تحولاً مغايراً لما ألفه، ومارسه فى حياته؛ من أساليب الفتك والنهب والتشرد، إلى طريق الجهاد فى سبيل الله، والهداية، والفتح . وذلك بعد صُحبته لسعيد بن عثمان، وخروجه معه غازياً إلى خراسان .
- ويحمل ديوان هذا الشاعر اتجاهات حياتية؛ وموضوعات جديرة بالدراسة، وخاصة فى الفترة التى اغترب فيها عن موطنه .
   وإن شعر مالك بن الريب ليكشف عن تلك النفس القوية المعتدة بذاتها، التى مارست حياة الفتك وقطع الطريق، ثم تجاوزت أبعاد هذه المرحلة، إلى حياة المسلم المجاهد.
  وما استشعره هذا الشاعر فى المرحلة المتأخرة من حياته وشعره، من مشاعر الحنين إلى مواطن أهله وذويه، وأحاسيس الاغتراب فى تلك البلاد، غير المألوفة لديه، فى بلاد فارس وخراسان .
  - وتتناول هذه الدراسة تأملات فى شعر مالك، فى ضوء نظريات علم النفس. إذ المتأمل فى شعره يلْحظ احتفاَء هذا الشعر بكثير من الدلالات النفسية، نتيجة لتلك النقلات النفسية، والمكانية والتى تركت صداها في شعره .
  ولا شك أن طبيعة البيئة فى خراسان قد فرضت على شاعرنا مالك أجواءً تختلف عما ألفه، ودرجت نُفسه عليه، ببادية البصرة .
  فخراسان على اتساعها، وتباين طبيعتها بين سهول ورمال وجبال، فإنها فى جملتها معتدلة المناخ، لطيفة الهواء، ليس فيها مناطق حارة متقدة الحرارة، ولا مناطق باردة شديدة البرودة إلا "الباميان"، فإنها أكثر خرسان برداً وثلجاً، وتربتها صحيحة، وأزكى أرضها  "نيسابو"، وأحسن أرضها التى تجودها الأمطار وترويها، ما بين هراة ومرو الرود. وهى ما يعرف بالأعذاء، أى الأرض الطيبة التربة، الكريمة المنبت، البعيدة من المياه والسباخ .
  ولذلك كانت خراسان غنية بخيرات الأرض، وأرزاق الدنيا، التى لم تكن تسد حاجات أهلها فحسب، وإنما كانت تفيض عن استهلاكهم فيضاً كبيراً من الغلات الزراعية، والمواد الأولية، والغذائية، والمنتوجات الصناعية. فكانوا يصدرونه إلى كثير من الأقطار، وفي ذلك يقول الإصطخري: " بخراسان من الدواب والرقيق والأطعمة والملبوس، وسائر ما يحتاج الناس إليه ما يسعهم. فأنفس ما يرتفع من نواحى بلخ، وأنفس ثياب الإبريسم ما يقع من نيسابور، ومرو الشاهجان، وأطيب البز ما يرتفع من مرو الشاهجان " .
  وعلى الرغم من هذا كله، فيبدو أن شاعرنا لم يألف هذه البيئة الجديدة المتحضرة بما فيها من ثلوج ونبات وحيوان، وأهلها الأعاجم، وأحس أنه غريب عنها، وأنه مدفوع بحنين جارف نحو وطنه وبيئته، التى شهدت مولده وصباه، فعبر عن هذه النزعة في شعره تعبيراً صادقاً .
  وقد تضاعفت هذه النزعة من الحنين في نفس الشاعر، حين تراءى له الموت فى طريق عودته من خراسان، فشملت قصيدته الأخيرة أبياتاً تقطر حرقةً لفراق الأهل والوطن. وتحمل إحساساً شديداً بالغربة والوحشة والضياع والانهيار النفسي.
   ويُرجع أحد النقاد المعاصرين شعور مالك بالغربة إلى ذلك الصراع النفسي، أو الانقلاب المفاجئ في حياته .
   إذ كان يعيش في " أزمة نفسية عنيفة متذبذباً بين القديم والجديد، مقبلاً حيناً على ترف الحضارة واستقرارها ومشدوداً حيناً إلى ذلك التراث النفسي المترسب في أعماق وجدانه، وإلى تلك القيم الأخلاقية والاجتماعية التى أصبحت من صميم كيانه " .
   ولا يخفى على المتأمل لشعر كثير من الشعراء، الذين انتقلوا إلى بيئات غيرعربية، خلال فترة الفتوح الإسلامية في العصر الأموى، تعبير هذا الشعر عن إحساسهم بالغربة وحنينهم إلى وطنهم.

   ومن أبرز الموضوعات فى شعر الحنين والاغتراب غربة الموت ووحشة القبر، إذ يتضاعف الجدب النفسى لدى الشاعر حين يتراءى له الموت  فى الغربة.
  فنلمح فى شعره المعاناة من الضيق الشديد بالغربة، إضافة إلى شعورٍ عميقٍ بالتمزق والضياع، وينتج لديه حنين دافق إلى حياة الجماعة.
    وهذا الموقف الإنسانى من اليقين بفجيعة الموت فى الغربة، يتكرر فى شعر مالك بن الريب التميمي حينما حضرته الوفاة وهو مغترب عن بلده، فحن إلى العودة، واستروح أنسام الصحراء ووادى الغضا وهو يحتضر بخراسان، وتذكر أيام فروسيته، ثم ما أصابه من ضعف حتى همَّ صاحباه أن يجراه بثوبه، يقول:
ألا ليت شعرى هل أبيتن ليلةً
فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه
لقد كان فى أهل الغضا لو دنا الغضا
فيا صاحبى رحلى دنا الموت فانزلا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعى
خـــــــــــــــــــذانى فــــــــــجرانى بثوبـــى إليكمــــا

بجنب الغضا أزجى القلاص النواجيا
وليت الغضا ماشى الركاب لياليا
مزار ولكنّ الغضا ليس دانيا
برابية إنى مقيم لياليا
وردا على عينىَّ فضل ردائيا
فقد كــنت قبـــل اليـــــــــــــــــــــــوم صعــــبًا قياديا

     ومن صور الحيوان التى وردت لدى مالك فى شعر الاغتراب والحنين، صورة الناقة الحزينة التى تقف بالعراء، وتُبكى الناس حتى توجع أكبادهم، وحتى تصيح النساء باكيات، يقول:
وعَزِّ قلوصـــــــى فى الركــــابِ فإنهــــا

سَـــتَفْلِقُ أكبادًا وتُبــــــــــــكى بَواكيــــا

وكذلك صورة الفرس الحزين، وهو يسير فى الصحراء وحيدًا يجر عنانه، ليشرب الماء بعد موت فارسه :
وأشقرَ محبوكًــــا يجرُّ عنانَــــهُ

إلى الماءِ لم يـــــــــترك له الموتُ ساقيــا

   وإن الرَّوِي في هذه القصيدة هو الياء المطلقة ويعد حرف الرَّوِي العنصر الإيقاعى المشترك فى القصيدة، ويتسم بدرجة عالية فى الوضوح السمعي؛ وقد أكسبها غنائية حزينة تكشف عن كآبة [الأنا]، فأتت القافية هنا كاشفة عن جوهر علاقة نفسية تعانى من التمزق والقلق، كما أتت ألف الإطلاق زيادة فى الدلالة امتدادًا لحزنه، وتصويرًا للانهائية حنينه، كلما عرض فى القصيدة لجانب من جوانب تجربته الكئيبة.
وجملة القول :
لقد اتسم شعر مالك بن الريب فى مرحلة الفتوح الإسلامية بخراسان بملامح الإحساس بالاغتراب، والحنين إلى الوطن، وتجلت هذه الملامح فى شعره فى هذه الفترة.
وإن إحساس الشاعر بالغربة قد دفعه لأن يستحضر صورًا متحركة لماضٍ يعتزُّ به، ممايوحى بتشبثه بالجذور الماضية، ورفضه للواقع الجديد؛كما دفعه لتجسيد مشاعر الغربة والحنين، من خلال صور الطبيعة، التى عرضها فى شعره عرضًا أمينًا؛ مما أكسب شعره هذا التعبير الحاد من الإحساس بالاغتراب، والانفصال عن المجتمع، والحنين الدافق للحياة الأسرية، ولبيئة الصحراء، والإحساس بحتمية الموت فى الغربة، والسرعة الفنية، وصدق التجربة، والواقعية، وحوار العاذلة، وبروز ضمير المتكلم الفرد –سواء كان من أجل التعبير عن الاغتراب، أو كان محاولة لتضخيم الذات وإبراز [الأنا] -رد فعلٍ لإحساس الغربة- مما يكشف عن نفسِ قلقةٍ مضطربة.
وقد عبَّر شعره عن هذا الإحساس تعبيرًا صادقًا، بحيث يصعب على دارس هذا الشعر فهمه وتذوقه، بمعزل عن الكشف عن هذه الأبعاد النفسية والشعورية، التى حفل بها هذا الشعر فى هذه الفترة التى اغترب فيها هذا الشاعر عن وطنه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق