الاثنين، 7 مايو 2018

علاقات الشرق والغرب في نماذج من أدب القرن العشرين



بقلم الأستاذ  الدكتور / نجلاء أبوعجاج
أستاذ الأدب الإنجليزي ووكيل كلية الآداب لشؤون الدراسات العليا والبحوث

يقول إدوارد سعيد "إن التجربة الاستعمارية الكبرى التي شهدها القرنان الماضيان تجربة عالمية شملت كل أرجاء المعمورة، وأثرت في كل شبر منها، وفي طرفي هذا الظرف التاريخي: المستعمِر، والمستعمَر (259).
     تعنى هذه الورقة بعرض بعض قضايا العلاقات بين الشرق والغرب كما تتبدى في عدد من النصوص الأدبية الحديثة المكتوبة باللغة الإنجليزية، والتي تناولتها دراسات تفصيلية للباحثة معظمها باللغة الإنجليزية كما يرد في قائمة المراجع[1]، والعلاقات هنا تشير إلى علاقة النص بالثقافتين الشرقية والغربية، من حيث السياق الثقافي الذي ينتمي إليه النص وكيفية تمثيل النص للمكونات الثقافية التي ساهمت في إنتاجه سواء كانت تنتمي لثقافة اللغة المكتوب بها النص أو تلك التي تنتمي إلى الثقافة الأخرى، أما الشرق فيقصد به في إطار هذه الدراسة الشرق العربي وتمثله مدينة الإسكندرية في رواية دي جي إنرايت "السنة الأكاديمية" (1955) و"رباعيات الإسكندرية" للورانس داريل (1957-1960)، ونص ديزموند أوجرادي بعنوان "إسكندريتي: الشعر والنثر"، والشرق في آسيا بعد انحسار الاستعمار البريطاني عن الهند وباكستان وتمثله مدينة كراتشي في مسرحية حنيف قريشي "مغسلتي الجميلة" (1985)، والشرق في أفريقيا التي خضعت للاستعمار الأوروبي، ونعنى هنا بمستعمرات الإمبراطورية البريطانية وتمثلها في هذه الورقة القرية في دولة غانا التي تدور فيها أحداث مسرحية أما أتا أيدو "مأزق شبح" (1965). أما الغرب فيقصد به هنا المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية والإطار الثقافي الذي يجمع بينهما.

     وتهتم نظريات الاستشراق ونظريات ما بعد الاستعمار بدراسة العلاقات بين الشرق والغرب من حيث التمثيل، والتأثير والتأثر، وتكوين الهوية، ورؤية الآخر، وغيرها من الموضوعات، وفي هذا الصدد نشير إلى مشكلات الاستعمار على مستويات عدة كما ناقشها ادوارد سعيد في كتابه "Culture and Imperialism"، وإلى التضاد بين الشرق والغرب كما وصفه فرانز فانون في كتابه The Wretched of the Earth (2004) ، وإلى محاولات الوصول إلى فضاء ثالث تتشكل فيه إمكانية التلاقي بين الشرق والغرب كما نرى عند هومي بابا في كتابه "The Location of Culture".



     وفي هذا الإطار تأتي رواية "السنة الأكاديمية" للكاتب البريطاني دي جي إنرايت في تصويرها للشخصيات المصرية وللثقافة العربية الشرقية بصفة عامة، فتقدم رواية "السنة الأكاديمية" الشرق من وجهة نظر غربية استعمارية تؤكد رؤية فانون بالتضاد بين المستعمر بكسر الميم والمستعمر بفتح الميم، فيقول فانون في كتابه The Wretched of the Earth (2004) ، في وصفه لأية مدينة تحت الاحتلال:
إن المنطقة التي يعيش فيها السكان الأصليون للمدينة لا تشكل جزءُا مكملا للمنطقة التي يسكنها الأوروبيون، فالمنطقتان تقفان في مواجهة بعضهما البعض، لا من أجل وحدة على مستوى أعلى، ولا في سياق يحكمه منطق أرسطي خالص، بل إنهما ترسخان الإقصاء المتبادل. فليس هناك تكامل يرتجى، فإحداهما لا ضرورة ولا حاجة لها. فالمنطقة التي يسكنها المستعمر (بكسر الميم) بنيت لتبقى، بنيت من الحديد والحجارة، بها أعمدة إضاءة وأرصفة، (...) أما المنطقة التي يسكنها المستعمر (بفتح الميم)، التي يعيش فيها السكان المحليون، المدينة الكابية، المحمية الطبيعية، فهي مكان سيء السمعة يقطنه أناس لهم سمعة سيئة. (4)
في رواية إنرايت تتجسد هذه الفجوة في العلاقة بين الأساتذة الأجانب والطلاب في قسم اللغة الإنجليزية، حيث يجد بيكون رؤية الطلاب للأدب الإنجليزي أمرًا مزعجًا جدًا:
وورديزويرث يعني ببساطة (بالنسبة لهم) "حب الطبيعة، الطبيعة أفضل معلم"، وهذا في بلد ينقصه الكثير من حيث الطبيعة هذه، ولا يهم عدد القصائد التي يدرسونها له، فإن فهمهم له سيظل كما هو، وكذلك فهمهم لشيلي، حيث يرون أنه يمثل "حب الحرية وكراهية الطغيان"، وهذه شعارات لا يمكن في حالتهم أن نقول إن تعريفها واضح ومحدد سلفًا (...).
هذا الأمر، كان باكيت يظن، يعتبر تصويرا دقيقا للشعوب المتخلفة- هذه الرؤية النفعية الضيقة للفنون على أنها إما سحر وإما تعليم. (إنرايت 112)
وقد قضى دي جي إنرايت في الإسكندرية أربع سنوات من 1947 إلى 1951 للعمل بالتدريس في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة فاروق الأول (الإسكندرية حاليًا)، وانعسكت خبرته الحياتية في هذه السنوات الأربعة في ديوانه الشعري Season Tickets  الذي نشر عددًا ضئيلًا من قصائده في كتاب The Language Hyena (1953)، وكذلك في روايته "السنة الأكاديمية" Academic Year ، وفي كتابه عن حياته الذي يحمل عنوان Memoirs of a Mendicant Professor (1969)، وأخيرا في كتابه Injury Time (2003)، والإسكندرية التي قدم إليها إنرايت في عام 1947 وصفها أنتوني ثوايت في مقدمته لرواية "السنة الأكاديمية" هي الإسكندرية في "السنوات الأخيرة لنظام فاروق الفاسد والمتهالك، كانت بلدًا على حافة التغيير الصارخ العنيف، ويعكس إنرايت في Academic Year هذا المزيج الذي تمثله المدينة من الفوضى والقمع والعدمية والتوقع، من الشغب والاحتجاجات وإشاعات عن الاحتجاجات وإشاعات عن انقلاب عسكري، هذا إلى جانب الإضرابات الطلابية المعتادة" (1984، (vii-viii.

     إن العالم الذي تخلقه "السنة الأكاديمية" تصوره للقاريء عيون ثلاثة من الأجانب المقيمين بالمدينة، وهم ريت وبيكون وباكيت، وبالتالي فهو عالم لا يضم جميع أوجه الحياة في المدينة، حيث إن كلا منهم يقدم رؤيته الذاتية للمدينة وناسها وفي ضوء خبرته بها وبهم. ويرى ديفيد وولش أن هذه "الرؤى المنفصلة (التي يقدمها كل من الشخصيات الثلاثة)، وكل منها تقدم بشكل ذكي وحساس، تشكل فيما بينها رؤية كلية وتصور المكان تصويرا كاملا وإنسانيا بما فيه من حياة ومعاناة وفكاهة" (78). غير أن استخدام وولش للصفتين "كاملا" و"إنسانيا" يستلزم تعليقًا، حيث إن الرواية لا تقدم صورة كاملة للإسكندرية، فالأحداث تدور في معظمها في أماكن تواجد الأجانب، ويأتي الاستثناء في تصوير قسم الشرطة، والحي الذي يقع في أطراف المدينة حيث يذهب باكيت لملاقاة إحدى العاهرات، ومعسكر الاعتقال في أبي قير حيث يذهب باكيت لعقد الامتحان الشفهي لأحد الطلاب المعتقلين هناك بسبب اشتراكه في المظاهرات ضد الاحتلال الإنجليزي. أما من حيث استخدام صفة "لإنساني"، فالرواية تصور كيف أن الأستاذين البريطانيين، باكيت وبيكون، يفشلان في تكوين علاقات وصداقات مع طلابهم وزملائهم من المصريين، مما يعكس الفجوة التي تشهدها الرواية بين "المستعمر" بكسر الميم و"المستعمر" بفتح الميم.

     وبهذا ترسخ رواية "السنة الأكاديمية" مثلها مثل العديد من النصوص الإنجليزية، منها على سبيل المثال لا الحصر "رباعيات الإسكندرية" للورانس داريل، و"ممر إلى الهند" لإي إم فورستر، و"قلب الظلام" لجوزيف كونراد، الصورة النمطية للشرق التي وصفها سعيد، فالشرق في "السنة الأكاديمية" أقل تحضرًا من الغرب، فالجامعة في سنواتها الأولى ولم يستقر بعد نظم الإدارة بها، ويرتادها طلاب لا يبدو أنهم يستفيدون من دراسة الأدب الإنجليزي، وعلى الأرجح هم ليسوا في حاجة إلى دراسته وغير قادرين على فهمه، والمصريون من العاملين بها ومن الأصدقاء والمعارف الذين تربطهم علاقات عمل أو صداقة بأبطال الرواية من الإنجليز أقل انضباطًا ودقة في الأداء، والحي العربي في مدينة الإسكندرية غير نظيف ويسكنه الفقراء والبغايا.

     وهكذا فإن رواية "السنة الأكاديمية" تمثل صوت الإمبراطورية البريطانية، تقدم التعليم واللغة الإنجليزية والأدب الإنجليزي والحضارة للشعوب التي تقع ضمن خريطة الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس. فالإسكندرية بالنسبة لإنرايت وباكيت وبيكون وبريت تمثل "الخارج"، و"الخارج" بالنسبة للكاتب البريطاني وقتها كان يمثل مكانًا يخلق شعورًا "بالغموض والتوتر، مكانًا مثيرًا وغريبًا، وبصورة ما يمثل مكانًا يجب أن يكون ’لنا‘ وأن نسيطر عليه، أو أن نتاجر معه ’بحرية‘، أو أن نقمعه عندما ينظم السكان الأصليون فيه صفوفهم في إطار مقاومة عسكرية أو سياسية واضحة" (سعيد، 74). كما أن الخارج أيضًا بالنسبة للكاتب البريطاني والأجنبي بصفة عامة مكان يكتب عنه، وهكذا تصبح الإسكندرية عند إنرايت مدينة "مهمة استعمارية" يقوم فيها الشخصيات الثلاثة بيكون وباكيت وبريت بأدوار استعمارية تتمثل في فرض بريطانيا لنفسها على البلدان التي تقع تحت الاحتلال (كابرال 473)، حيث تنفذ بريطانيا سياستها الاستعمارية في هذه البلدان على النحو الذي صوره توماس بوبنجتون ماكولاي .في حديثه عن العلاقة بين الثقافة الإنجليزية وثقافة الهند والبلاد العربية كافة، إذ قال إن الإنتاج الثقافي كله للهند والبلاد العربية لا يعادل محتويات رف واحد في أية مكتبة أوروبية جيدة (ورد في أندرسون 91).

     وفي هذا السياق تأتي روايات داريل الأربعة التي تعرف برباعيات الإسكندرية  The Alexandria Quartet، وتتكون من Justine، وBalthazar، وMountolive، وClea، وقد جاء داريل إلى مصر في أثناء الحرب العالمية الثانية للعمل كملحق صحافي للسفارة البريطانية في القاهرة والإسكندرية في الفترة من 1941 إلى 1944، ثم انتقل إلى روديس وبلجراد واستقر في النهاية في جزيرة قبرص في عام 1953، ثم انتقل لاحقًا إلى بروفنس بفرنسا حيث قضى بقية حياته. بدأ داريل في كتابة رواياته الأربعة التي تدور أحداثها في مدينة الإسكندرية في عام 1957 عندما كتب Justine ثم في عام 1958 انتهى من كتابة Balthazar، وظهرت Mountolive في عام 1958، وأخيرا خرجت Clea إلى حيز الوجود في عام 1960. تغطي الروايات الثلاثة الأولى الفترة الزمنية ذاتها تقريبًا، فتدور أحداث هذه الروايات في السنوات القليلة التي تسبق اندلاع الحرب العالمية الثانية، في حين تقع أحداث رواية Clea في فترة زمنية لاحقة، وتسكن هذه الروايات مجموعة من الشخصيات الرئيسة بعضها يتحرك في إطار الروايات الأربعة وبعضها يظهر في واحدة فقط أو أكثر، وتتضمن الشخصيات الرئيسة هذه الراوي إل جي دارلي، وعشيقته اليونانية ميليسا، والسفير البريطاني ماونت أوليف، ورجل المخابرات البريطانية بيرسوواردين، والفنانة التشكيلية كليا، وجوستين وزوجها الثري القبطي المصري نسيم. وهذه الشخصيات تجمعها شبكة محكمة من العلاقات الاجتماعية والجنسية والسياسية، وتقدم كل رواية من الروايات الأربعة جانبًا من جوانب حقيقة هذه العلاقات في إطار مدينة الإسكندرية التي يعيشون فيها ويتحركون ضمن نسيج الحياة الاجتماعية والسياسية بها.


     وكما يظهر من قائمة الشخصيات الرئيسة في الروايات الأربعة فإن معظم هذه الشخصيات من الأجانب المقيمين بالإسكندرية، كما أن الراوي، مثل الراوي عند إنرايت، من الأجانب، وبالتالي فإن الزاوية التي يرى منها الأحداث تحكمها نوعية الخبرات والعلاقات التي يتعرض لها في المدينة، إلى جانب الفكرة المسبقة عنها وعن الوجود الأجنبي بها بما فيه وجوده هو شخصيًا. دارلي مدرس للغة الإنجليزية لديه ميول إبداعية ودائم البحث عن "الحقيقة" فيما يخص الحياة بصفة عامة وعلاقته بالمدينة وعلاقته بميليسا من جانب وبجوستين من جانب آخر بصفة خاصة،  وتبدأ رواية Justine بقرار داريل أنه سيبدأ في كتابة روايته عن حياته في الإسكندرية، وذلك بعد سنوات من انتقاله إلى إحدى جزر البحر المتوسط حيث يعيش بصحبة عدد من الكتب وطفلة ميليسا التي سيتضح لاحقا أنها ثمرة علاقة سرية بين ميليسا ونسيم، يتذكر تلك المدينة التي عاش فيها سنوات مضطربة مليئة بالأحداث ويحاول أن يصل لتعريف لها:
"السؤال المهم هو ما هذه المدينة؟ مدينتنا هذه؟ ماذا تعني كلمة الإسكندرية؟ في لحظة واحدة ألمح في عقلي صورة آلاف الشوارع التي تغطيها الأتربة. الذباب والشحاذون يملكونها الآن – وكذا من يقعون بين هذين النوعين" (داريل 17).
وفي حوار لدارلي في فترة سابقة مع جوستين، يفكر وهي تتحدث في "مؤسسي المدينة، في الجندي الإله في تابوته الزجاجي، الجسد الغض الذي يرتدي زيًا فضيًا، ويمتطي حصانه بحذا النهر نحو قبره" (داريل 38)، وتدور طوال الرواية عدة تساؤلات في ذهن دارلي تتعلق بالمدينة وأثرها في حياة سكانها وخاصة الأجانب والنساء منهن بصفة عامة، فهو يرى أننا – نحن البشر- "أبناء البيئة التي نعيش فيها، فهي تملي علينا تصرفاتنا وأفكارنا بقدر ما نستجيب نحن لها" (داريل 39-40)، والإسكندرية في نصوص داريل مبهرة ساحرة قاسية مخيفة، ونرى ذلك في عدة مواضع يأتي فيها ذكر المدينة، فهي ميناء يستدعي ذكر اسمها "مأساة الموانيء والأسماء التي تتعلق بها عندما تكون متجهًا نحو اللا مكان، فإنه أمر مثل الموت – موت الذات الذي ينطق به كل ترديد لكلمة الإسكندرية ، الإسكندرية" (داريل57)، هذه المدينة التي لا تعود فقط إلى التاريخ ليصبغ شخصيتها بعبقه، ولكنها أيضأ تتحرك في إطار الحاضر بين الجنسيات والعرقيات واللغات والديانات والثقافات المختلفة (داريل 314)، فهي مدينة يسكنها أتباع طوائف وديانات مختلفة وأبناء عرقيات مختلفة وأصحاب لغات مختلفة، و"القضية هنا لا تختص بالعرقيات واللغات المختلفة، بل إنها تختص بالطبيعة الوطنية الغريبة للسكندريين في بحثهم عن المصالحة بين هاتين الصفتين النفسيتين العميقتين (وهما الحسية المفرطة والجمال الفكري) اللتين يشعرون بهما تماما، وهذا ما يجعلنا هستيريين ومتطرفين، وهذا يفسر لماذا نحن عشاق لا مثيل لنا" (داريل 83-4)، وسكان المدينة هؤلاء يشكلون نسيجًا اجتماعيًا تمكن دارلي من الولوج إليه عن طريق نسيم، زوج جوستين عشيقة دارلي، وتعرف دارلي عن طريق نسيم إلى نساء الطبقة الراقية، والنساء الأجنبيات اللاتي تقمن في الإسكندرية (داريل 67) ووجد فيهن جمالًا أكثر من أي جمال تتمتع به النساء في مكان آخر، "فالخوف وعدم الأمان يسيطران عليهن، ولديهن وهم أنهن يغرقن في محيط من الظلام حولهن، وهذه المدينة قد بنيت لتكون ساترًا يمنع مرور السواد الأفريقي، ولكن السود من أصحاب الخطوة الناعمة قد بدأوا بالفعل في التسلل إلى الأحياء الأوروبية، فهناك، إذن، نوع من النشع العرقي يتم حاليًا" (داريل 59)، وهذا يفسر تصوير داريل للأحياء التي يسكنها "العرب" في الإسكندرية على أنها أماكن تملؤها الفئران والذباب والأتربة (داريل 26). ويتضح ذلك في وصف الحي الشعبي الذي ذهب إليه ماونت أوليف في رحلة أقرب إلى المغامرة منها إلى التنزه، حيث يذهب عدد ضئيل جدًا من الأوروبيين إلى هذه الأماكن (داريل 624)، وتناول ماونت أوليف الغداء في مطعم شعبي لفت نظره أثناء سيره في هذا الحي الذي يقع خلف محطة الرمل بسبب أفرانه المشتعلة التي يخرج منها دخان كثيف، ورائحة الزعتر والحمام المشوي والأرز التي جعلته يشعر فجأة بطعنات الجوع (داريل 625)، كما يتضح أيضًا في وصف المولد الذي يحضره دارلي بصحبة كليا في الحي العربي (داريل 766).

     وهكذا تحمل المدينة تناقضات صارخة تنذر بأن وجود الأجانب بها لن يستمر طويلا، وتلقي بظلال من الشك حول قوة التركيب الكوزموبوليتاني لها، حيث ينقسم سكان هذه المدينة إلى قسمين رئيسين هما: السكندريون، ويقصد بهم عند داريل الأوروبيون الذين يعيشون في الإسكندرية، والعرب ويقصد بهم المصريون، والسكندريون يشعرون أنهم:
 غرباء عن مصر التي توجد تحت القشرة اللامعة لأحلامهم، والتي تحدها الصحراء الحارة ويحيط بها إيمان يرفض المتعة الآنية في هذا العالم: مصر الثياب الرثة والجروح المتقيحة، مصر الجمال والإحباط، أما الإسكندرية فمازالت قطعة من أوروبا – عاصمة أوروبا الآسيوية، لو كان هذا الكيان موجودًا. لا يمكن للإسكندرية أن تكون مثل القاهرة التي تأخذ الحياة فيها صبغة مصرية، حيث يتحدث (ماونت أوليف) العربية بكثرة، أما هنا فاللغات الفرنسية والإيطالية واليونانية تسيطر على المشهد، والجو العام، والسلوك الاجتماعي، وكل شيء كان مختلفًا، كانت تصبغه صبغة أوروبية، والجمال وأشجار النخيل والسكان الأصليون المتدثرون بالرداء التقليدي كانوا مجرد إطار ملون مبهر، خلفية لحياة منقسمة منذ نشأتها. (داريل 509).
فالإسكندرية عند داريل مدينة غربة لا لون متجانسًا لها ولا أمان في أحضانها، فالأصل أن دارلي والشخصيات الأوروبية كلها تحيا في هذه المدينة على سفر، فيطرح دارلي على جوستين في لحظة ما فكرة أن يتركا الإسكندرية، أن يفرا إلى مناخ لا يخيم عليه الحزن والفشل (داريل 147)، كما أنه لا يتمكن من كتابة روايته التي سكنت أوراق "رباعيات الإسكندرية" من البداية حتى النهاية تقبع بين ثنايا السطور إلا عندما رحل عن الإسكندرية وأقام في هذه الجزيرة البعيدة عن سحر الإسكندرية وسطوتها.

     وفي مقابل مدينة "المهمة الاستعمارية" عند إنرايت، ومدينة "الغربة" عند داريل، تأتي المدينة "الحياة" عند أوجرادي. ولد أوجرادي في أيرلندا في عام 1935 وحصل على درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية، وقام بالتدريس في باريس وروما والولايات المتحدة وجمهورية مصر العربية، حضر أوجرادي إلى مصر في عام 1978 وقام بالتدريس في جامعة الإسكندرية والجامعة الأمريكية بالقاهرة لمدة ثلاثة أعوام، ثم عاد مرة أخرى لزيارة مصر والإسكندرية على وجه الخصوص في 1993، وبالاتفاق مع مركز الدراسات السكندرية ودراسات البحر المتوسط بمكتبة الإسكندرية قام بكتابة مذكراته عن الفترة التي قضاها في الإسكندرية، وجاءت في شكل نصوص شعرية ونثرية، نشرها المركز بعنوان My Alexandria: Poems and Prose، وترجمة العنوان: "إسكندريتي: الشعر والنثر"، والقصائد تعبر عن دفقات شعورية ذاتية الصبغة ، والأجزاء النثرية يحكمها ضمير المتكلم المفرد.

     ولكن الذات هنا نتاج عوامل متعددة من ضمنها ما استقر في وعي أوجرادي عن الإسكندرية نتيجة قراءته للنصوص التي ألهمتها الإسكندرية لمبدعين وأدباء، وعلى رأسها The Alexandria Quartet لداريل، فاختار أوجرادي أن يقيم في فندق سيسيل فور وصوله للإسكندرية لأنه كان قد قرأ نص داريل (أوجرادي 21)، كما أنه كان يتجول في المدينة في أوقات الفراغ بين المحاضرات وهو يحمل كتاب إي إم فورستر Alexandria: History and Guide وساعده تجواله في المدينة، كما يقول، "على الاسترخاء والاندماج في نمط المدينة والمعرفة بهذا البعد الهلينيستي الجديد" في حياته (أوجرادي 32)، واستمر في جولاته في المدينة وحده، كان شخصًا أجنبيًا وحده ولا يعرف أحدًا من سكان المدينة  ولا يتحدث لغة أهلها ولا يتحدث أهلها لغته، ولكنه كان يشعر أنه "في وطنه. كان قد قرأ فورستر واستحضر معرفته بقدر من تاريخ المدينة في الفترة الرومانية، وكان يسأل عن الاتجاهات في المدينة على استحياء وبلغات خمسة" (أوجرادي 37). هذا بالإضافة إلى قصائد كافافي التي سكنت خيال أوجرادي الشاعر وحياة كافافي التي أثارت اهتمام أوجرادي الأديب والفنان، فجعل من مهمة البحث عن كل ما يتعلق بكفافي مهمة تستحق العناء، فبحث عن كل ما يمكن أن يجده عن حياته وشعره ورؤيته للمدينة تقريبًا في كل مكان يستطيع الوصول إليه (أوجرادي 41)، وكان أوجرادي يرى "أن مدينة كفافي كانت مكانًا جميلا، حتى لو لم تعد المباني اليونانية والرومانية القديمة موجودة الآن، فحضور القوى الاستعمارية الأوروبية وحضور عبقرية محمد علي البدوية (1805-1848) قد خلقا مدينة حديثة عظيمة على خارطة المدينة القديمة، مما جعل التجوال في المدينة متعة" (أوجرادي 42)، ولخص أوجرادي إحساسه بمدينة الإسكندرية في عدة مواضع من نصه، حيث يقول "إنه برغم أنه كان وحده تمامًا في الإسكندرية، إلا أنه لم يشعر أبدا بالوحدة أو الملل أو الاكتئاب" (70)، كما أنه "كان يشعر أن الإسكندرية ستكون مدينته الأخيرة، وبحرها المتوسط مهده الأخير" (38).

     أما في رحلة العودة إلى الإسكندرية في 1993، فقد وجد أوجرادي أن:
الإسكندرية قد تغيرت، قد أصبحت أكثر هدوءًا من الفترة من 1978 إلى 1980، أكثر هدوءُا من أيام داريل ومن أيام كفافي وفورستر، وأكثر هدوءًا من أيام(ه)، فلم تعد هناك أماكن رئيسة تذهب إليها للدردشة مع الأصدقاء، أو للتمتع بالجو المختلف الغريب للشرق الأوسط، باستثناء مطعم إيليت. فالسكندريون لا يبدو أنهم يخرجون ليلًا بصفة عامة ولا حتى لزيارة بعضهم بعضًا، ولا يبدو أن الأجانب القليلين الذين مازالوا موجودين يخرجون ليلًا أيضأ، فقد أغلق التروبيكانا أبوابه، وكذلك اليونيون الذي كان في المنشية، وأصبح سيسيل قبيحًا وبورجوازي الصبغة ومملًا، كانت الإسكندرية مثل إمرأة جميلة قد طعنت في السن وتقيع الآن في المنزل بعيدًا عن الأعين. (أوجرادي 106)
وهكذا تكون إسكندرية أوجرادي مدينة يختلط فيها الماضي بالحاضر في استمرارية مدهشة بالرغم من التغييرات الاجتماعية والثقافية التي طرأت عليها، ونص أوجرادي يعيد اكتشاف المدينة مرتين، مرة عند قدومه إليها لأول مرة عندما يراها بعينين تأثرتا بمن كتبوا عنها من قبل، ويذكر داريل وفورستر وكفافي، فتكون رؤيته لها عند قدومه إليها إعادة اكتشاف، ثم عندما يعود مرة أخرى إلى المدينة في التسعينات يراها مرة أخرى في لحظة إعادة اكتشاف. ومن العوامل التي تساهم في اكتشاف المدينة والمعرفة بها العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي يخلقها الفرد فيها، فبينما اقتصرت علاقات باكيت وبيكون وبريت في "السنة الأكاديمية" على الدائرة الاجتماعية التي تتكون من الأجانب، إلا فيما ندر وكذلك كان الأمر في"رباعيات الإسكندرية"  حيث كان الأجانب ينخرطون في دائرة اجتماعية مغلقة عليهم، فإن الأمر يختلف عند أوجرادي الذي شارك أستاذًا مصريًا من جامعة الإسكندرية منزلًا في جليم وعاشا معًا كزملاء عمل، وتحاورا كأصدقاء وإخوة، وكان زميل أوجرادي في هذا المنزل الأستاذ الدكتور حلمي هليل من قسم اللغة الإنجليزية، وهو حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة لندن في اللغويات المقارنة، وتصادف أن كان أوجرادي وهليل قد مرا بظروف شخصية متشابهة فتحدثا عن عائلة كل منهما واولاد كل منهما (أوجرادي 53)، وذكر أوجرادي أن لهليل ابنة نابهة درست فيما بعد الأدب الإنجليزي وامتهنت التدريس مثل والدها (أوجرادي 59)، وهكذا كانت علاقة أوجرادي بزميل العمل وأسرته، ومن قبل بتلميذته بالجامعة الأمريكية والتي تعمل بقسم اللغة الإنجليزية بجامعة الإسكندرية شيرين ليني التي قدمته لرئيس قسم اللغة الإنجليزية آنذاك الأستاذ الدكتور عزة كرارة، وبالزميلات بقسم اللغة الإنجليزية تعبيرًا عن الندية التي يشعر بها وهم أيضًا بها يشعرون في سياق مصر ما بعد ثورة يوليو 1952، فعندما وصل إلى مكتب الأستاذ الدكتور عزة كرارة وجدها مشغولة بتنظيم أمور بداية الدراسة، واستقبلته وجلس في مكتبها ووصفها بأنها امرأة لطيفة مبتسمة أبدت اهتمامًا بالاستماع له يتحدث عن خبرته التدريسية السابقة وشعره ورحلاته إلى مدن مختلفة، وعرضت عليه أن يدرس عددًا من الساعات بالقسم إلى جانب تدريسه في الجامعة الأمريكية، وقبل عرضها (أوجرادي 23)، وهذا الحوار بين أوجرادي ورئيس قسم اللغة الإنجليزية يوضح أن أوجرادي لم يأت إلى مصر بصفة عامة والإسكندرية على وجه الخصوص ممثلًا للمستعمر (بكسر الميم)، بل جاء إلى بلد حقق استقلاله عن المستعمر منذ سنوات، وخرج المستعمر وممثلوه منه ومازال تدريس اللغة الإنجليزية بخير ولم يندثر، ولكن الرؤية له قد تغيرت، فالمعرفة بالحضارة الغربية، شأنها شأن المعرفة بالحضارات الأخرى وبالمعارف والعلوم الأخرى من ضرورات المشاركة في عالم تقف فيه مصر على قدم المساواة مع غيرها من الدول، ولقد شهدت الفترة من 1954 إلى ما بعد 1973 بسنة أو سنتين تغيرًا في علاقات مصر الخارجية فمالت نحو المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، ولكن هذا لم يعن الانغماس الثقافي الكامل في هذ الاتجاه، كما أنه لم يؤد إلى الابتعاد ثقافيًا ومعرفيًا عن الثقافة الغربية، كل ما في الأمر أن مصر بصفة عامة، والإسكندرية تحديدًا لم تعد "مهمة استعمارية" للبعض كما نرى عند إنرايت، كما أنها لم تعد مكانًا تسكنه قشرة كوزموبوليتانية مغتربة عن نسيج هذا الشعب، وبالتالي فإن نص أوجرادي الذي يحوي قصائد ونثرًا وصورًا رائعة لفنادق الإسكندرية وكلية الآداب والأستاذ الدكتور عزة كرارة ومنزل كفافي ومطعم إيليت والناصية التي يقع عندها مطعم تريانون والمسرح الروماني وكورنيش الإسكندرية، نص أوجرادي هذا نص مفعم بالحياة، والإسكندرية فيه مدينة حياة، شعر فيها بالاستقرار في:
شقة مريحة، وفي إطار علاقة صداقة وأخوة مع حلمي هليل، وكان له جدول تدريس مريح في كلية الآداب، وأصدقاء مضيافون استقبلوه في منازلهم التي تقع في أحياء مختلفة من المدينة، هذا إلى جانب المطاعم الجيدة في المدينة والمناخ الجميل، والخيال التاريخي الذي أشبعه، وكانت الزيارة الأسبوعية للقاهرة لتدريس سيمينار عن جيمس جويس بالجامعة الأمريكية جزءًا من هذا الإيقاع الجميل، فشعر أنه مستقر في الإسكندرية، في مصر بوجه عام. (68)
وهذا المناخ العام الذي يتحرك فيه أوجرادي مناخ مصري خالص، ينقصه الطابع الكوزموبوليتاني الذي كان يصبغ الحياة في مدينة الإسكندرية كما صورها إنرايت وداريل وغيرهما من الكتاب الكثر الذين ألهمت الإسكندرية خيالهم، وهذه الصبغة الكوزموبوليتانية جميلة في مظهرها، مريرة في حقيقتها، تقصي المصريين من سكان هذه المدينة الصغيرة التي تحولت إلى ميناء عالمي، ومركز تجاري وثقافي يجذب الأجانب من معظم الدول الأوروبية وغيرها من المناطق الخاضعة للحكم العثماني، ومدينة كبيرة يتمتع فيها الأجانب بامتيازات قانونية واجتماعية واقتصادية نراها في المحاكم المختلطة والهيمنة على النشاط التجاري والتعليم الأجنبي الذي يتلقاه أبناء الأجانب والقلة من الأثرياء المصريين، أما السواد الأعظم من المصريين في مدينة الإسكندرية فيسكنون الأحياء العربية على أطراف المدينة حيث الفقر والقذارة والدعارة، فكان لابد من أن يتقوض هذا البناء البراق وأن تتغير منظومة العلاقات بين مصر والمستعمر (بكسر الميم)، ومن هنا جاءت الإسكندرية التي قدم إليها أوجرادي في 1987 ثم زارها مرة أخرى في 1993، ثم قام بجمع مذكراته وقصائده لنشرها في هذه المدينة التي مع مطلع القرن الواحد والعشرين كانت تصبو لاستعادة دورها الثقافي الرائد في ظل مناخ حقًا يحتفل بالتعدد لا الهيمنة، مناخ يطرح تاريخ المدينة بكل ما يحمله من تناقضات للعرض والدراسة، وفي هذا الإطار يأتي طبع مذكرات أوجرادي ضمن منشورات مكتبة الإسكندرية في عام 2006، وهكذا فإن نص أوجرادي يقف في مقابل النصوص التقليدية التي تقع في إطار أدب الاستعمار مثل نصي إنرايت وداريل، ويخرج إلى آفاق أكثر رحابة وأكثر إنسانية.

     وذلك بخلاف الحال في مسرحية حنيف قريشي "مغسلتي الجميلة"، حيث نجد أمتين وثقافتين ولغتين وتاريخين ومدينتين في مقابل بعضهما البعض في ظل سياق تاريخي يعرف بعصر ما بعد الكولونيالية، وتدور أحداث المسرحية في لندن في الثمانينات من القرن العشرين، ويسكن عالم هذه المسرحية خليط من الإنجليز البيض من أهل البلاد والإنجليز من أصول باكستانية، وينخرطون جميعا في علاقات معقدة بعضها علاقات عمل أو زواج أو علاقات عاطفية، وفي إطار هذه العلاقات المتشابكة تأتي محاولات التفاوض والتصالح والبحث عن مكان أو هوية، وفي مجملها محاولات فاشلة، حيث إن الجو العام للمسرحية يسوده العنف، وذلك في تناقض واضح مع عنوان المسرحية الذي يوحي بالتناغم والعمل المزدهر الناجح، وتنتهي المسرحية بمشهد حصار للمغسلة فيه تكرار للعديد من مشاهد العنف ضد الملونين والمهاجرين في انجلترا بدءًا من تلك المشاهد التي يتذكرها عمر من أيام طفولته وانتهاءً بهذا المشهد النهائي الذي يتجمع فيه عدد من الشباب البيض الغاضبين من علاقة جوني الإنجليزي الأبيض بعمر صاحب المغسلة الباكستاني الأصل، والرفض لهذه العلاقة يرجع لسببين: لا يستسيغ البيض أن يعمل أحدهم أجيرًا لدى أحد المهاجرين، ولا يتقبل المجتمع طبيعة العلاقة المثلية بين جوني وعمر.

     ولاتقدم المسرحية تصورًا في النهاية لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الشرق والغرب، فالأمر معقد للغاية، فها هي الإمبراطورية البريطانية التي تشكل لدي أبنائها وعيًا أصيلًا بهويتهم وثقافتهم ولغتهم طوال سنوات بناء الإمبراطورية، وتغير الحال بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفقد الإمبراطورية لمستعمراتها ولملايين من شبابها وللكثير من ثروتها، وتطلب إعادة البناء استقدام العمالة من البلدان التي تحررت من سيطرة الإمبراطورية ومنحهم أوراق ثبوتية في مقابل إثراء القوة العاملة والنهوض بالاقتصاد بعد حرب ضروس قاسية. وفي هذا الإطار تأتي قصة المسرحية الرئيسية، قصة عمر الذي ولد لأب باكستاني وأم إنجليزية، مثله في ذلك مثل حنيف قريشي نفسه، ويبحث لنفسه عن مكان في هذا العالم (بريطانيا في ثمانينات القرن العشرين)، والده لا يعمل وعمه من كبار رجال الأعمال وهو لايلتفت لدراسته التي يرى والده أنها السبيل الوحيد لتحقيق مكانة في هذا العالم، ولكن عمر يجد عمه يخالط كبار رجالات المجتمع ويتمتع بنفوذ يحققه له ثراؤه الفاحش وصفقاته الكبرى، ويقرر عمر أن يحذو حذو عمه وأن ينخرط في عالم رجال الأعمال بخطوات متواضعة على أمل الوصول إلى المرحلة التي يعوضه فيها نجاحه المادي عن إحساسه بأزمة الهوية التي صاغت سنوات طفولته وشبابه.

     وفي خضم هذه الصراعات، وفي وسط هذا العنف ترمز "كراتشي" إلى الوطن الأصلي، الذكريات، الطقوس، اللغة، الطعام، فنجد والد عمر يصر أن يأكل الطعام الباكستاني التقليدي ويطلب من عمر أن يطهوهه له، كما يستخدم المهاجرون من الجيل الأول اللغة الأردية في الحديث فيما بينهم، ويشعرون بالأسف لأن الجيل الجديد لا يتعلمونها، وتقيم زوجة بلقيس سالم، عم عمر، حفلات عشاء باكستانية الصبغة، فترتدي معظم النساء الملابس الباكستانية التقليدية ويشمل ذلك الضيوف الإنجليز، وتشعر بلقيس بعدم الثقة عندما تتحدث الإنجليزية وتفضل الأردية كلما كان ذلك ممكنًا، وتحكي كثيرًا عن الحياة في باكستان.
     وبالتالي فإن المسرحية لا تصور أمة تعيش فيها الثقافات المختلفة في وئام وتناغم، وتأتي تعبيرًا دراميًا عن رؤية لإنجلترا في السياق الحديث والمعاصر، وتبقى  صورة العنف في نهاية المسرحية  صادمة، تدعو للتفكير وتلقي بظلال الشك على إمكانية الوصول إلى ما ينادي به بابا من فضاء ثالث تتخلق فيه الهوية عبر سلسلة دائمة من المفاوضات والمصالحات والمبادرات في إطار فكري من التصورات التي ترسخ مرونة الهوية وصيرورتها الدائمة واتساعها لتقبل المتغيرات.

     ونلمح التشكك ذاته في مسرحية "مأزق شبح" للكاتبة أما أتا أيدو أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة والتي شغلت منصب وزير التعليم في بلادها لفترة، ثم تفرغت للكتابة والتدريس، ولها أعمال متنوعة تشمل الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والقصيدة، وكلها باللغة الإنجليزية، اللغة الرسمية في جمهورية غانا، وتدور أحداث مسرحية "مأزق شبح" في إحدى القرى بغانا، فيعود أتو إلى القرية بعد أن أتم دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية وهو يصطحب زوجته الأمريكية من أصول أفريقية، وبالرغم من أن الأحداث كلها تدور في هذه القرية فإن الإشارة الدائمة للغرب، ولأرض الرجل الأبيض كما يقول أهل القرية، تخلق فضائين، أحدهما مادي ملموس والآخر نظري يحيا في مخيلة الشخصيات من خلال كلمات يولالي زوجة أتو أو من خلال الحوارات بين أهل القرية حول الغرب وعودة الابن والزوجة الأمريكية.

     تدور معظم أحداث المسرحية في منزل عائلة أتو:
"في فناء الجناح الحديث من منزل عائلة أودومنا، والفناء مغلق من ناحية اليمين بأحد جدران المنزل القديم، ويحده من اليسار ويقع في وسطه جداران من جدران الجناح الجديد، وفي الركن على اليمين يوجد باب يربط بين الفناء وممر يؤدي إلى فناء البيت القديم، وهو فناء أوسع من ذلك الذي نراه أمامنا، في وسط الجدار في يسار الفناء هناك باب يؤدي إلى حجرات الجناح الجديد، وتدور الشرفة حول جانبي الجناح الجديد". (أيدو 5)
والمكان الذي تدور فيه معظم أحداث المسرحية هذا له دلالة كبيرة، حيث يؤكد وجود ملامح من الماضي وأخرى معاصرة في تكوين غانا في العصر الحديث، ويفترض إمكانية خلق فضاء ثالث  نجد فيه التقاليد العريقة لثقافة أهل القرية والمؤثرات الغربية التي وصلت إلى القرية مع عودة الشاب الذي كان يدرس بالولايات المتحدة مصطحبًا زوجة أمريكية، ومن الجدير بالذكر أن أسرة هذا الشاب قد أنفقت في سبيل تعليمه في "ارض الرجل الأبيض" الغالي والنفيس (أيدو 35)،  فباعت الكثير من الأرض والمشغولات الذهبية المتوارثة لتغطية نفقات الدرجة الجامعية في الولايات المتحدة، ولكن المشكلات والصراعات تبدأ فور عودته بصحبة الزوجة الأمريكية، فتجد زوجته صعوبات في التأقلم مع نمط الحياة في القرية ولا تستسيغ الطعام ولا الموسيقى ولا الطقوس الاجتماعية التي ينخرط فيها أهل القرية، كما أنها تعيب على أتو احترامه لرؤى أهل قريته ولمفاهيمهم بخصوص العائلة والواجبات الاجتماعية، وفي الوقت ذاته يستغرب أهل القرية سلوك يولالي وأسلوب حياتها، وينتهي الحال بالزوجين إلى العيش في المدينة، بالرغم من افتراض أهل القرية أن الجناح الجديد بني خصيصًا لأتو وزوجته، وتتبلور المشكلة الرئيسية في المسرحية عندما يثير عدم إنجاب الزوجين الكثير من الأسئلة، فثقافة الأكان تقدس الحياة الزوجية وتجد في الإنجاب واجبًا مقدسًا، وألقى أهل أتو اللوم على زوجته، فإلى جانب عدم ترحيبها بزيارات والدته لهما في المدينة وعدم  اشتراكها في أي حدث أسري، فإنها تغضب الآلهة برفضها للإنجاب، ويسيطر هذا التوتر على الأحداث لحين الوصول إلى مشهد النهاية الذي يعترف فيه أتو أنه متفق مع زوجته على تأجيل الإنجاب وأنها ليست عاقرًا ولم تنفرد باتخاذ قرار تأجيل الإنجاب، وهنا تحنو والدة أتو على زوجته وتصحبها إلى داخل المنزل، ويتم التصالح في نهاية المسرحية فقط عندما يقوم أصحاب الثقافة المحلية بتقبل التغيير والمفاهيم الجديدة التي وصلت إلى القرية بوصول أتو وزوجته، ولم تقم يولالي بأي جهد على الإطلاق للوصول إلى منطقة وسط تتلاقى فيها مع عائلة زوجها وتقاليد القرية وثقافتها، فهي لم تدخل في المفاوضات التي يرى بابا أنها الوسيلة الوحيدة لإنتاج الهوية، وبالتالي فإن المسرحية لا تعد فضاءً ثالثًا تتخلق فيه الهويات عبر سلسلة من العمليات التي ينتج عنها تأثر كل طرف في ساحة المفاوضات بالطرف الآخر، فيولالي التي تمثل "تميز الغرب" منذ بداية المسرحية يتم تقبلها واحتوائها بدون أية مواءمات من طرفها، مما يرسخ سطوة الثقافة الغربية ويطيح بإمكانية العيش في فضاء رحب يتسع للجميع، وبالتالي فإن المسرحية تثير العديد من الأسئلة بخصوص العلاقات بين الشرق والغرب، فاللغة الإنجليزية التي أصبحت اللغة الرسمية في غانا صارت الوعاء الذي يستخدمه أهل البلد وأبناء الثقافة في كتابة أنفسهم وصياغة هويتهم وتقديمها للعالم، وهذه مشكلة تعود جذورها، كما يوضح  كوامي نكروما، إلى تقسيم أفريقيا بين القوى الاستعمارية الأوروبية، مما كان له أكبر الأثر في تاريخ أفريقيا، فقد ظلت البلدان الأفريقية تابعة للقوى الاستعمارية التي كانت تحتلها قبل التحرر من حيث اللغة والمعرفة، فأصبحت اللغات الأوروبية اللغة الرسمية في بعض البلدان الأفريقية، ومازالت أفريقيا تعتمد على استيراد المعرفة من الغرب وتدور في فلك المعونات الاقتصادية الغربية، التي تمثل صورة من صور الاستعمار الجديد.
 
     ويبدو أنه ليس من السهل أبدا تحدي تفوق وسيطرة الثقافة الغربية بعد قضاء عدد كبير من السنوات في الولايات المتحدة والحصول على درجة علمية والزواج من أمريكية، ولذلك فإن أتو يقف موقفًا سلبيًا من الصراع الدائر بين والدته التي تمثل الثقافة التقليدية للقرية وبين زوجته التي ترمز في هذا النص إلى مفاهيم الثقافة الغربية بالرغم من أنها من أصول أفريقية، وكانت تظن أن عودتها لأفريقيا عودة لجذورها ووطنها، ولكنها فوجئت بأن نمط الحياة ونسق القيم وأنواع الطعام والموسيقى كلها تختلف عن الصورة الذهنية التي أثرت خيالها للأرض التي جلب منها أجدادها ليقضوا سنوات عبودية ونضال من أجل حقوق المواطنة في الولايات المتحدة لعقود من الزمان، وهنا يقف أتو صامتًا عاجزًا عن التوصل إلى صيغة تفاهم بين الاثنتين، وتأتي المصالحة بينهما فقط عندما يعترف أتو أنه شريك في قرار تأجيل الإنجاب، وبالتالي فإن "مأزق شبح" لا تقدم صورًا للمقاومة ولا تتسآل حول تفوق الغرب، بل توضح أن أسرة أتو قد أنفقت كل ثروتها تقريبًا من أجل أن يتم تعليمه في الخارج، وأن أهل القرية يعاملونه بإجلال واحترام بسبب هذا التعليم ويشيرون إليه في كثير من المواضع بأنه "الرجل الأبيض" وأنه "سيدهم"، وبذلك فإن المسرحية ترسخ تفوق الثقافة الغربية، شأنها شأن رواية إنرايت ورباعيات داريل، وتختلف عن "مغسلتي الجميلة" التي تنشغل بالنقد الواضح للثقافة الغربية وتبرز الصراع بين الثقافتين الشرقية والغربية حتى آخر مشهد في المسرحية.

     ومما سبق نخلص إلى أن النصوص الخمسة محل الدراسة تقدم أفكارًا نلخصها على النحو التالي:
1.      ترسيخ تفوق الثقافة الغربية ويظهر ذلك في كتابات أهلها كما في نصوص إنرايت وداريل.
2.      فشل مقولة هومي بابا بأن ثقافة المستعمر (بكسر الميم) وثقافة المستعمر(بفتح الميم) تلتقيان في فضاء ثالث وتخلقان معًا ثقافة مهجنة، فنصوص أهل اللغة الإنجليزية وثقافتها لا تفسح مجالا لذلك كما يبدو في روايات إنرايت وداريل، والخطوة نحو التهجين اتخذتها ثقافة الشرق في مسرحية "مأزق شبح" فتحركت والدة أتو جسديًا نحو يولالي في مشهد المصالحة في النهاية واحتضنتها وقبلتها بدون أن تبذل يولالي في سبيل ذلك أي جهد، أما عاصمة الإمبراطورية البريطانية السابقة  فإنها تموج بالصراعات كما نرى في مسرحية "مغسلتي الجميلة"، والشرق في هذه المسرحية ذكرى نلمحها في أنواع الطعام والملابس في حفل عشاء وبعض الحوارات باللغة الأردية بين مهاجري الجيل الأول، حيث لا يعرف مهاجرو الجيل الثاني لغة موطنهم الأصلي ويكتفون بلغة الثقافة التي ولدوا ونشأوا في إطارها.
3.      سيطرة تيمة الصراع بين الثقافتين على مسرحية "مغسلتي الجميلة"، فالعنف الذي تصفه المسرحية في عدة مواضع منها على سبيل المثال المظاهرات التي كان ينظمها التلاميذ في المدرسة عندما كان عمر وجوني زملاء دراسة، وكان التلاميذ ينددون بوجود الملونين بينهم ويرمونهم بالحجارة، وكذلك محاصرة المغسلة في مشهد النهاية، ولقد شهد المجتمع البريطاني في تاريخه الحديث عددًا من الصدامات العنيفة سبقت ظهور الفيلم والنص المكتوب وجاءت لاحقة له، من بينها المواجهات بين الشباب من اصل آسيوي وبين البوليس في مدينة برادفورد في شمال إنجلترا، ونشأت بسبب مضايقات عنصرية من قبل بعض من الشباب البيض ذوي الصلة بالجبهة الوطنية ذات الميول اليمينية في 1995، وتجددت في 2001، وكذلك أعمال العنف في 2012 التي عكست غضب الملونين وإحساسهم بالظلم الاجتماعي والاقتصادي، وهذه الأمثلة تعني أن تصور هومي بابا  الخاص بالهوية دائمة التغير والتحول في ظل سياسات تفاوض مستمرة ليس تصورًا منضبطًا قابلا للتحقيق.
ويعني ذلك أن الصراع، لا التفاوض، أساس العلاقات بين الثقافات، خاصة وأن العالم مازال يحيا تحت هيمنة الثقافة الغربية، فقد تركت القوى الاستعمارية إرثًا ثقيلا للبشرية يتطلب التعامل معه انفتاحًا ثقافيًا حقيقيًا من كل الأطراف المعنية، ودراسة متعمقة للثقافات الشرقية وتعزيزًا للغات غير الأوربية، وعلاقات تتميز بالندية بين جميع الأطراف.

المراجع
مراجع باللغة العربية:
أبوعجاج، نجلاء. "الإسكندرية في الأدب الإنجليزي: نص ديزموند أوجرادي My Alexandria: Poems and Prose نموذجًا". مؤتمر الإسكندرية الأدبي لليوم الواحد "الإسكندرية ملهمة الأدباء". وزارة الثقافة: الهيئة العامة لقصور الثقافة: 34-53.
مراجع باللغة الإنجليزية:
Abou-Agag, Naglaa. "East/West Cultural Relations in Ama Ata Aidoo's Dilemma of a Ghost". European Journal of English Language and Linguistics Research. Vol.5, No.8, September 2017: 55-62.
----, "London/ Karachi Confrontations in Hanif Kureishi's My Beautiful Laundrette". Cairo Studies. June. Cairo: Cairo University 2014: 451-469.
----, "Inhabitants of Different Worlds: The Voice of the Colonizer in D. J. Enright's Academic Year versus National Discourse in Edouar El-Kharrat's City of Saffron". Salwa K., H.S. Gindi & N.S. El-Kholy (eds.) The Proceedings of "The Ninth International Symposium on Comparative Literature" held by The Faculty of Arts, Cairo University, 2009: 323-342.
Aidoo, Ama Ata, (1965) Dilemma of a Ghost, New York: Longman, reprinted 1985.
Anderson, B. (2006). Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism. London & New York: Verso.
Bhabha, Homi, (1994) The Location of Culture, London & New York: Routledge.
Cabral, A. (2000). "National Liberation and Culture". In D. Brydon (ed.). Postcolonialism: Critical Concepts in Literary and Cultural Studies, Vol. II. London: Routledge : 471-487.
Durrell, L. (1968). The Alexandria Quartet. London: Faber & Faber.
Enright, D. J. (1985).  Academic Year. Oxford: Oxford University Press.
Fanon, F. (2004). The Wretched of the Earth. (Trans.) Richard Philcox. New York: Grove Press.
Kureishi, Hanif. My Beautiful Laundrette. London: Faber & Faber, 2000. Print.
Nkrumah, Kwame, (1966), New-Colonialism: The Last Stage of Imperialism, New York: International Publishers.
O”Grady, D. (2006). My Alexandria: Poems and Prose. Alexandria: Bibliotheca Alexandrina.
Said, W. E. (1994). Culture and Imperialism. New York: Vintage Books.







[1] الترجمة العربية لجميع الاقتباسات سواء كانت من النصوص الأدبية محل الدراسة أو من المراجع قامت بها الباحثة.